د. كورت بيلدا
عندما كنت أقوم بالتغطية الإخبارية من جبال أفغانستان أو من أدغال أنغولا في ثمانينيات القرن الماضي فقد كان الأمر يستغرق أسابيع, وأحياناً أشهر قبل أن تُنشر مقالاتي أو تُبثّ تقاريري التلفزيونية. كانت الأخبار – على الأقل تلك القادمة من هكذا أماكن نائية وغير عادية – أبطأ بكثيرٍ من اليوم لأنه لم تكن هناك بعد وسائل اتصال ميسرة عبر الأقمار الصناعية, كما لم يكن هناك إنترنت بعد. لقد تغير هذا الحال بالطبع رأساً على عقب. ولكن في نفس الوقت فقد تطورت مقدرة الدول واللاعبين غير الحكوميين على فرض رقابةٍ على نشاط الصحفيين واعتراض سبل سفرهم. اليوم لا يستغرق الأمر موظف الجمارك أو قائد مجموعة مسلحة سوى دقائق كي يفحص اسم الصحفي باستخدام غوغل. يجعل هذا الأمر التحدي أكبر أمام الصحفيين إذا ما أرادوا أن يسافروا متسترين بصفة سيّاح أو تجار إلى بلدانٍ تشهد نزاعاتٍ مسلحة. إلى ذلك, هناك شيءٌ واحدٌ لم يتغير, معظم أطراف النزاع لا تريد للحقائق التي لا تناسبها أن تنتشر. في منتصف الثمانينات, أخبر سفير الاتحاد السوفياتي لدى باكستان الصحفيين أنهم سيُقتلون في حال سافروا بطريقةٍ غير شرعية إلى أفغانستان لكي يغطوا أخبار نضال المتمردين هناك ضد الاتحاد السوفياتي. شخصياً, لم أكترث بذلك وذهبت إلى هناك رغم تلقي التحذيرات.
وما نسمعه اليوم من النظام في سوريا وحليفيه روسيا وإيران لا يختلف كثيراً. فالصحفيون كانوا مستهدفين في الماضي وهم إلى ذلك ما يزالون مستهدفين اليوم. بالإضافة إلى ذلك, فعندما سافرت مع المتمردين الأفغان في الثمانينيات, لم تكن بدعة خطف الصحفيين من أجل الفدية أو عمليات التصفية المروّعة لهم قد سُنّت بعد. في أماكن مثل سوريا أصبح خطر أن يتعرض الصحفي للخطف من قبل متشددين إسلاميين أو حتى من قبل مجرد مجرمين عاديين أكبر بكثيرٍ من احتمال تعرض الصحفي للهلاك أو الإصابة بفعل الغارات الجوية أو داخل على خط الجبهة.
لذلك فإذا ما أراد أحدهم القيام بالتغطية الإخبارية الدقيقة من منطقة حروب فهو بلا ريب بحاجة لأن يواجه كل هذه التحديات لأن الصحفي يفلح في نقل القصة للخارج فقط عندما يكون حراً وحيّاً. في النهاية لا يختلف البحث عن الحقيقة في مناطق الصراع عن البحث عن المعلومات العلمية في أوربا أو أمريكا لولا أنه في الحالة الأولى محفوفٌ بالمهالك التي ذكرناها آنفاً من قبيل التعرض للاختطاف. فالعبور من النفطة (أ) إلى النقطة (ب) ممكن أن يشكل تحدياً ليس سهلاً في منطقة الصراع والسبب لأنه يمكن ببساطة أن يكون هناك خط جبهة يفصل بينهما, وفي الغالب هناك اختلافات ثقافية أيضاً. في الشرق الأوسط أو في إفريقيا مثلاً, ليست هناك أية فائدة تُرجى من إجراء مقابلات مع أشخاصٍ عبر الهاتف أو عن طريق السكايب, اللهم إلا إذا كنت تعرف هؤلاء الأشخاص مسبقاً معرفةً وثيقة. عليك عوضاً عن ذلك أن تلتقي بالأشخاص وجهاً لوجه لأن الناس في هذه البلدان لا يخوضون بالحديث عن مواضيع مهمة عبر الهاتف أو الإنترنت. وعندما تتحدث إلى رجلٍ مسنّ, أو ضابطٍ ذي رتبةٍ عالية, أو إلى زعيمٍ قبلي أو قائدٍ ثوري, فأنت لا تبدأ المقابلة بطرح أسئلةٍ خاصّة. كما أن الإلحاح من أجل الحصول على إجاباتٍ بخصوص أسرارٍ عسكرية أو ما يشاع عن انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان ارتكبها مقاتلو الشخص الذي تتم مقابلته من شأنه أن يثير الشكوك حولك بأنك جاسوس, والموضوع قد لا يلبث أن يصبح خطيراً جداً.
في البداية عليك أن تظهر احترامك بشرب الشاي وتبادل علامات اللباقة لبرهةٍ من الوقت. المراسل الجيد عادةً ما يكون حليماً في مواقف كهذه. لا ترفض عرضاً للأكل مع من أتيت لتقابله, حتى وإن كان الطعام يحوي لحماً وأنت نباتيّ مثلاً. من شأن رفضك أن يعتبر وقاحةً ظاهرة. اشرح لماذا أنت في منطقة النزاع ولمَ يعتبر عملك مهماً لمن تقابله ولمنظمته. لا تسأل أسئلةً مسلّمٌ بها أو غبية. فسؤال أمير حرب بارز عن طريقة كتابة اسمه بشكلٍ صحيح أو عن عمره يمكن أن يعتبر علامة على عدم الاحترام, إذ يجدر بك أن تكون على درايةٍ بهذه الأشياء مسبقاً. وإن لم تكن على درايةٍ بها, اسأل أحد رجاله لاحقاً, بحيث تستر جهلك ولا تهرق ماء وجهك أمام “الرجل الكبير.” لكي تنجو بحياتك وتحصل على المعلومات التي تريد عليك أن تكسب محبة واحترام الأشخاص الذين يرافقونك ويقدمون لك الحماية. معنى ذلك أنك قد تضطر حتى للكذب أحياناً عندما يسألك السكان المحليون أسئلةً شخصية. فمصارحة هؤلاء الناس بأنك مثليٌّ مثلاً, أو يهودي أو ملحد ممكن أن يضعك في مأزقٍ حقيقي في بعض أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا.
يبدو الكلام أعلاه سهلاً, ولكن سوف تندهش لو أخبرتك كم قابلت من صحفيين غربيين في مناطق الصراع ممن كانوا يسألون أسئلةً غبية أو يعطون تفاصيل شخصية ممكن أن تعرضهم للخطر. من المفيد جداً لو عملت واجبك وعرفت القليل عن الأشخاص الذين تهمّ بمقابلتهم, من قبيل المنطقة التي يعيشون فيها, منظمتهم, الوضع العسكري وما إلى ذلك. لا ينبغي عليك الاكتفاء بتصنّع الاحترام لدى مقابلة شخصٍ مشتبه بكونه مجرم حرب, بل يلزم عليك أن تفوز باحترامه هو عن طريق مراءاته ببعض الأشياء التي اطلعت عليها. قابلت مؤخراً أمير حرب إسلامي له سطوة كبيرة في العاصمة الليبية طرابلس نادراً ما يلتقي بصحفيين غربيين. بعد أن انتظرته لوقتٍ طويلٍ وأظهرت له احترامي عن طريق التمشي معه في حديقة مقرّه وشرب الشاي معه – من دون الإشارة لماضيه كتاجر مخدرات ومجرم صغير – بدأت أطرح عليه أسئلةً عن الدولة الإسلامية في ليبيا. ولأنني كنت قد قمت ببحثٍ مطول عن الموضوع وتحدثت مع ليبيين آخرين مهمين بخصوصه, فقد تمكنت من طرح أسئلةٍ دقيقة بخصوص أساليب التجنيد وطرق إمداد الإرهابيين. وهكذا بدأ أمير الحرب, الذي يبغض أولئك المتطرفين, بإعطائي الكثير من التفاصيل القيّمة عن هيكلية وأسلوب عمل الفرع الليبي من تنظيم الدولة. سمعت لاحقاً من أحد معاونيه أن الرجل كان مندهشاً وقال أنه لم يلتق من قبل بصحفيٍّ عنده هذا الكمّ المسبق من المعلومات عن ليبيا. لو احتجت مساعدته في المستقبل فهو بلا ريب سيذكرني.
غالباً ما يشكل معاونو أمراء الحرب والضباط ذوي الرتب العالية مصادر أفضل للمعلومات من الأشخاص الذين نجري معهم المقابلة. فهم غالباً ما يجهلون حساسية بعض الأسئلة. في إحدى المرات في سوريا كنت أجري لقاءً مع ضابطٍ كبير في الميليشيا التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية. أثناء تصوير المقابلة, قال أحد المعاونين أن الضابط خضع لسنواتٍ من التدريب العسكري “في الجبال,” في العراق على يد حزب العمال الكردستاني التركي (بي كي كي). وطبعاً يعتبر البي كي كي حزباً إرهابياً من قبل الولايات المتحدة ومعظم الحكومات الأوربية, ولذلك استشاط غضب القائد لأن المعاون أدلى بمعلومات كان يريدها أن تبقى سرية. لاحقاً رجاني المعاون المسكين الذي أفشى بالسر ألا أضمّن كلامه في تقريري. وبما أن ما قاله ليس له مكان أصلاً في تقريري, فقد أهملته وأرسلت له نسخة من التقرير عند نشره لكي أثبت له أني أوفيت بوعدي. بهذه الطريقة كسبت صديقاً في سوريا سوف يفعل كل ما بوسعه كي يساعدني في مهماتي المستقبلية. ومع ذلك, فالمعلومة التي زودني بها كانت مفيدة لأنها رسّخت قناعتي الشخصية أن الميليشيا الكردية التي تحمل اسم حزب (بي يي دي) السوري ما هي إلا فرع لل (بي كي كي). وأنا أوردت هذه القصة هنا كي أقول أنك كي تكون ناجحاً وآمناً في نفس الوقت فأنت بحاجةٍ لشبكةٍ من الأصدقاء والمصادر التي لا تكتفي بتزويدك بالمعلومات عن التطورات المهمة فحسب, بل وتحذرك من الأخطار المحدقة. وهكذا فإن بناء الثقة هو عاملٌ مهمٌ جداً هنا. إنه ليس سوى استثمار بعيد المدى في منطقةٍ أنت بأمسّ الحاجة فيها لكي يكون لك أصدقاء ومصادر. فالأصدقاء والمصادر ليسوا فقط مهمين خلال رحلتك إلى مناطق الصراع, وإنما تبرز أهميتهم أيضاً لدى جمعك للمعلومات والتحقق منها عندما تكون بعيداً في بلدك الأم.
يعمد كل الأطراف في الصراع على نشر دعايتهم الخاصة, وهم بالطبع يحاولون تضليل الصحفيين لأجل تحقيق مصالحهم. فهم قد يظهرون لك ما يروّج دعايتهم ويحجبون البقية عنك. ترتفع خطورة أن تتعرض للتضليل عندما تمضي إلى خطوط القتال بمرافقة قوة منظمة ومركزية, سواء كانت تلك القوة جيشاً نظامياً أو مجموعة متمردة. فلو كنت تعتمد على مجموعةٍ واحدة من أجل حاجتك للسفر وتجري مقابلاتك مع أشخاصٍ من نفس توجه تلك المجموعة, فأنت بذلك تصبح عرضةً للتضليل وتصديق معلوماتٍ مزيفة. فالأشخاص الذين تقابلهم في تلك الحالة قد يكونوا ببساطة جُلبوا من قِبَل المجموعة التي ترافقها أنت لهذا الغرض. لنفترض على سبيل المثال أن مجموعةً مسلحة أو وحدةً من الجيش جلبتك إلى قريةٍ مدمرة قاموا بالسيطرة عليها للتوّ. ولنهب أن المقاتلين سمحوا لك بمقابلة عائلةٍ تدعي أنها كانت تعيش في القرية قبل أن يتم ذبح السكان, وتهرع تلك العائلة بلفت نظرك إلى الدمار في منازل القرية. لنقل أن العائلة أيضاً قالت أن القتلة هم إرهابيون وأن العائلة تشعر بالأمان مع المقاتلين الذين أتيت أنت برفقتهم. ولنقل أنك شعرت بوجود شيءٍ غريب بالموضوع حيث تتشابه شهادات كل أفراد العائلة مع بعضها البعض, وخصوصاً فيما يتعلق بمدح المقاتلين الذين أتيت أنت برفقتهم. وقد تساعدك تجربتك في تغطية الحروب في فهم أن نوع الدمار الذي أنت إزاءه ناجمٌ عن غاراتٍ جوية, بينما لا يمتلك “الإرهابيون”, أي المجموعات المسلحة التي يلومها الشهود, سلاح طيران. وهكذا فمن شأن أسئلةٍ بسيطة من قبيل من هو إمام القرية؟ أو البقال؟ أو أسئلةٍ عن تاريخ القرية أن تساعدك على اكتشاف أن الشهود ما هم سوى أشخاصٌ استُجلبوا استجلاباً من أجل خداعك. فلربما جيء بهم إلى القرية من مكانٍ بعيد فقط من أجل إلقاء اللوم على الطرف الآخر في حصول المجزرة, سواء كان ذلك الطرف العدو, أو الإرهابيون, أو أياً كانت التسمية التي تطلق عليهم.
لكن أحياناً تكون أنت نفسك جاهلاً بالمنطقة ومن الصعب عليك أن تتحقق من الإجابات حول جغرافية أو تضاريس المكان. على كلٍّ, اسأل أسئلتك بكل الأحوال وحاول أن تجد الإجابات الصحيحة لاحقاً. قارن الإجابات التي تتوصل إليها لاحقاً بما قاله لك الشهود. إن تتبع الأماكن التي ترد في المقابلات على الخريطة, مع نظرةٍ عن كثب لها عبر صور الأقمار الصناعية, والاستماع لشهادات أشخاص مستقلين على درايةٍ بالمنطقة, كل ذلك ممكن أن يساعدك على كشف التزييف الحاصل عندما يتم استجلاب أشخاص لأجل المقابلة أو تقديم أجوبة تهدف لتضليلك. مرة أثناء أزمة دارفور في السودان اصطحبتني مجموعةٌ من المتمردين الإفريقيين إلى هضبةٍ كانت تستخدم من قبل كمعسكر عسكري لميليشيا أو للجيش. بعض الخنادق, الفَشَك الفارغ, وعلب الطعام بالإضافة إلى بعض الكتابات العربية على بعض الصخور كانت كلها تشير إلى وجود سابق للجيش السوداني على قمة الهضبة. أخبرني السكان في القرى المجاورة أن الميليشيات الحكومية ساقت القرويين من قراهم وجلبتهم إلى موقع المعسكر حيث استُجوبوا, عذبوا وقتل العديد منهم ودفنوا في المكان. أراني المتمردون بعض القبور الجماعية المزعومة. ولكي نتأكد من فحوى تلك المعلومات كان علينا في ذلك اليوم فتح المقابر الجماعية ومعاينة الجثث. لكن لم يكن هناك متسعٌ من الوقت, لذلك أخذت إحداثيات المكان وبعد العودة للبلد ألقيت نظرةً قريبة على صور الأقمار الصناعية لتلك الهضبة. تمكنت على الفور من تحديد أماكن القبور الجماعية المزعومة, وقد كانت في الواقع أكبر بكثيرٍ مقارنةً بما رأيته على الأرض.
لأن كل أطراف النزاع يريدون إمداد الصحفيين بدعايتهم الخاصة, فإن العامل الأكثر أهمية يبقى الفحص البصري. فإن كانت لديك تجربة في تغطية العديد من الحروب, فمن الممكن أن يصبح من الصعب خداعك. على المرء أن يكون حذراً جداً عندما يكون هناك حديث عن مجازر مزعومة, اللهم إلا إذا أتيحت للمرء فرصة أن يعاين بنفسه مسرح الجريمة وأن يتكلم إلى العديد من الشهود العيان بصورةٍ مستقلة عن بعضهم البعض. وعلى المرء خصوصاً أن يبدي حذره إذا كان الدليل الوحيد المقدم هو صورٌ أو فيديوهات للأعمال الوحشية التقطت عن طريق الهواتف الذكية. فحتى وإن كانت الصور حقيقية, فلعلها تكون قديمة أو أخذت من مكانٍ آخر خلاف المكان المزعوم. على سبيل المثال, اتضح أن الصور التي استعملت للدلالة على الدمار الذي أحدثته الطائرات الإسرائيلية في قطاع غزة مأخوذة من حلب في سوريا. وفي إحدى المرات أنفقت الكثير من المال من أجل قصة مغرية تتعلق بالمنشقّين عن تنظيم الدولة الإسلامية. سافرت إلى أورفا, وهي مدينة تركية قرب الحدود السورية. هناك قابلت وسيطاً قال إنه يعمل بتهريب المنشقين إلى خارج سوريا. تمكنت من التحدث إلى, بل وتصوير العديد من النساء والرجال الذين بدت تصريحاتهم حقيقية ومنطقية. لكني بعد ذلك طلبت من الوسيط تقديم دليلٍ مادي, كالصور مثلاً, تثبت أن الذين قابلتهم كانوا فعلاً عناصر في الدولة الإسلامية. أعطاني بضع صورٍ وجدتها منذ البداية مشبوهة. بعض الصور كانت لنساءٍ يرتدين نقاباً أسود ويحملن بنادق كلاشينكوف. كن يرتدين عصائب على رؤوسهن عليها كتابة بالعربية. عيون النساء في الصور لم تتطابق مع عيون النساء المحجبات اللائي أجريت معهن المقابلات. ومع أن دقة الصور كانت أقل من أن تساعدني على قراءة الكتابة العربية على العصائب, إلا أن تصميمها ذكرني بتلك العصائب التي تستخدمها حركة حماس الفلسطينية. وعندما عملت بحثاً في غوغل استطعت أن أعثر على معظم الصور في مواقع ليس لها علاقة بسوريا أو بالدولة الإسلامية. فقد استُخدمت الصور من قبل في سياقاتٍ مختلفة والوسيط قام ببساطة بتحميلها من الإنترنت. من الممكن أن الصور التي قدمها الوسيط هي وحدها المزورة وأن يكون المنشقون فعلاً منشقين حقيقيين. ومع ذلك فلم أستخدم تصريحاتهم ولا مقابلات الفيديو التي أجريتها معهم. كان عليّ أن أطلب الدليل المادي قبل أن أتجشم عناء السفر إلى أورفا.
من الأمثلة التي توضح حجم الكارثة عندما يعتمد الصحفي على إفادات الشهود دون المعاينة البصرية لموقع الحدث هو إحدى التجارب التي مرت بها جريدة يومية ألمانية. في منتصف عام 2012 حصلت مذبحة كبيرة بحق مدنيين في منطقة الحولة في سوريا. ومع أن محققي الأمم المتحدة سارعوا بإلقاء اللوم على الجيش والميليشيات الحكومية في مقتل ما يربو على مئة مدني, إلا أن مراسل الجريدة كانت لديه رواية مختلفة تماماً. فبناءً على شهادات بعض “الشهود” الذين التقاهم المراسل في مناطق يسيطر عليها النظام ادعى المراسل أن المتمردين هم في حقيقة الأمر من ارتكب الجريمة. عندما قرأت نسخته عن الحدث استوقفتني إحدى الجمل. أولاً, اقتبس المراسل من تقريرٍ لوكالة أسوشيتد برس قال فيه أحد الشهود أن مرتكبي المذبحة رؤوسهم حليقة للصفر ولحاهم طويلة. وهكذا قفز المراسل ليستنتج:
“هذه هي هيئة الجهاديين المتطرفين وليس الميليشيات الحكومية.”
لو أنه فقط تصفح صفحات البعض من عناصر هذه الميليشات الحكومية على فيسبوك لعرف أن هؤلاء الأشخاص يحبون دائماً أن تكون رؤوسهم صلعاء ولحاهم طويلة. إن جهله بهذا التفصيل دفعني للشك بالتقرير برمته. وقد خضعت نسخته عن الحادثة للتفنيد لاحقاً من قبل مجلة إخبارية ألمانية قام مراسلها بتجشّم عناء السفر مع المتمردين إلى الحولة ليتمكن من فرصة تكوين انطباع شخصي إضافةً إلى الحصول على إفاداتٍ لشهود عيان. كما أن الأمم المتحدة نشرت تقرير اللجنة التي أسستها للتحقيق بالمذبحة, والذي ورد فيه:
“توصلت اللجنة إلى أن القوات الحكومية والميليشات الموالية لها هي المسؤولة عن عمليات القتل في الحولة.”
بين الفينة والأخرى كنت ألتقي بصحفيين غربيين في خطوط القتال يرفضون السفر بسياراتٍ فيها مقاتلون يحملون أسلحتهم معهم. من الممكن أن يكون رفضاً كهذا منطقياً تحت ظروفٍ معينة, لكن بشكلٍ عام لا يجدر بالمسالمين جداً بطبيعتهم أن يذهبوا إلى خطوط القتال. فصحافة الحرب تقتضي الاطلاع على الأسلحة المختلفة. فمن أجل سلامتك, ومن أجل جودة تغطيتك يجب أن تمتلك على الأقل معرفة أولية بسلاح المشاة, والدبابات والطائرات التي تستخدم في حروب اليوم. وهذه عادةً ما تكون نوعيات قديمة يمكن إيجادها جميعاً في ويكيبيديا. الصحفي الذي لا يستطيع تمييز بندقية إم 16 الهجومية الأمريكية عن بندقية آك-47 السوفييتية, أو تمييز مقاتلة إف 16 الأمريكية عن سوخوي 25 الروسية, هكذا صحفي ربما لا يجدر به العمل على التغطية الإخبارية على خطوط قتالية. فأولاً عليك أن تمتلك معرفة بقوة تأثير الأسلحة التي تستخدم في المنطقة التي تقوم بها بالتغطية. من شأن هكذا معرفة أن تساعدك في تقرير ما هو التحصن الكافي في حالتك وما هو ما هو غير كافٍ. فعادةً لا تحميك سيارة أو حائط من الآجر ضد سلاح المشاة. والبيت قد يحميك من قذائف الدبابات إن اخترت المكوث في الاتجاه الصحيح من البناء, لكن البيت لا يقدم لك حماية من قذائف الهاون لأن تلك القذائف تنطلق عالياً في السماء قبل أن تسقط عليك بشكلٍ عمودي. المعرفة الأولية بالأسلحة تحصّنك أيضاً ضد ارتكاب أخطاءٍ صحفيةٍ فادحة. على سبيل المثال, منذ بداية التدخل الروسي في سوريا تم كتابة الكثير من التقارير التي تلقي باللائمة على طيارين روس في قصف المشافي وخلاف ذلك من جرائم الحرب. غير أن كلا الجيشين الروسي والسوري يستخدمان نفس أنواع المقاتلات الهجومية السوفييتية العتيقة من قبيل سوخوي 24. وهكذا فحتى لو كنت شاهداً بنفسك على غارةٍ جوية تنفذها طائرة من هذا الطراز فلن يكون بمقدورك تحديد فيما لو كان الطيار روسياً أم سورياً لأن المقاتلات عادةً ما تحلق على ارتفاعاتٍ عاليةٍ جداً ولن يكون بالإمكان التعرف على الشعار المثبّت على أجنحة الطائرة. ولكي تتأكد من أن الغارة روسية وليست سورية فأنت بحاجةٍ لأن تتمكن من التمييز بين الأنواع المختلفة من الطائرات من قبيل سو 25 أو سو 34 التي يستعملها سلاح الجو الروسي دون السوري.
ولا ينبغي أن تقتصر خبرة مراسلي الحروب على أنواع الأسلحة والتكتيكات العسكرية, بل عليهم الإحاطة بأنواع الإصابات التي تتسبب بها الأسلحة المختلفة. من شأن هكذا إحاطة أن تساعد في تجنب الوصول لنتائج مغلوطة بخصوص من تقع عليهم المسؤولية لمقتل مدنيين, أو أسرى حرب, أو ضحايا مذابح. يعتبر هجوم الدولة الإسلامية على مسرح باتاكلان في باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 مثالاً حزيناً لكنه معبراً في هذا السياق. لم يكن الصحفيون هم الذين سارعوا لاستنتاجاتٍ مغلوطة بسبب نقص خبرتهم بأنواع جراح المعارك في تلك الحادثة وإنما رجال الشرطة. فقد رأى الشرطة أجساد ضحايا من دون عيونٍ أو أضلاع واعتقدوا أن الإرهابيين قطعوا الرؤوس واقتلعوا العيون. وهذا بدوره شجع بعض وسائل الإعلام وخصوصاً اليمينية لإطلاق تنبؤاتٍ عن حصول تعذيب وأعمال وحشية أخرى تم ارتكابها في باتاكلان كما لو أن الهجوم الإرهابي لم يكن بحد ذاته مريعاً بما فيه الكفاية. نُشرت التفاصيل في أكثر من 900 صفحة ضمن تقريرٍ استقصائي رسمي أفاد بأن شرطياً واحداً هو الذي قدم معلوماتٍ بحصول تعذيب في باتاكلان. وهكذا استنتجت صحيفة (بريتش ميل أنلاين), على سبيل المثال, أن “الحكومة الفرنسية أخفت معلومات بخصوص تعذيبٍ رهيب وقع لضحايا باتاكلان حيث أن التحقيق الرسمي أفاد أن بعض الضحايا تم خصاؤهم وأن عيونهم تم اقتلاعها من قبل مجرمي داعش.”
استخدم المعادون للإسلام هكذا تقارير للتحريض ضد جميع المسلمين من دون تمييز. لكن لو أن الصحفيين قرأوا التقرير كاملاً لحصل لديهم فهمٌ أفضل لما جرى. فمثلاً لقد اتضح لاحقاً أن الشرطة لم تعثر ولو على سكينٍ واحدة أو أية أداة حادة أخرى مناسبة لتقطيع الرؤوس أو الأضلاع البشرية. كما أن ضابط الشرطة الذي تكلم عن تقطيع الرؤوس والأضلاع قال أنه لم ير الجثث بنفسه وإنما أخبره بذلك ضابطٌ آخر. لكن ما رآه ذلك الشاهد ربما يكون نتيجة طلقاتٍ من بندقية آك 47 س من مسافةٍ قريبة. فبإمكان طلقةٍ من هذه البندقية تستهدف الرأس مباشرةً أن تقتلع عيناً وتترك جرحاً غائراً. وبإمكان حزام ناسف أن يقطع الأطراف. لكن الجراح التي يتركها الحزام مختلفةٌ عن تلك التي تتسبب فيها السكين فيما لو استخدمت لهذا الغرض. وأنا أنصح الصحفيين الراغبين باكتساب خبرة بالجراح التي يتسبب بها القتال أو تحصل أثناء المجازر بإلقاء نظرةٍ عن كثب للجثث في ساحة المعركة وأن يزوروا المشافي في مناطق الصراع. أعلم أن هذا الاقتراح رهيبٌ طبعاً, ولكنه يساعد الصحفي في القيام بعمله على نحوٍ أفضل. أنصح الصحفي أن يسأل الأطباء وأفراد الفرق الطبية في تلك المشافي عن نوع السلاح الذي سببت هذا الجرح أو ذاك. إلقاء نظرة على القتلى والجرحى في المشافي يذكر الصحفي دائماً أن الحرب بحد ذاتها مذبحةٌ رهيبة حتى عندما يكون اسمها “حرب على الإرهاب” وحتى وإن استخدمت الأسلحة الحديثة ذات الدقة العالية. إن “الأضرار الجانبية” لما يُسمّى القنابل الذكية (وهم في هذه الحالة مدنيون تمزقهم هذه القنابل إرباً لأن حظهم العاثر جعلهم يتواجدون في المكان الزمان الخاطئين) لا يختلفون عن الضحايا الذين يسقطون في الهجمات الانتحارية. كلاهما بريؤون تماماً. وفي النهاية, المعاينة البصرية للمظهر الخارجي هي الأداة الأهم في يدك كمراسلٍ حربيٍ. فهي التي ستساعدك, بالإضافة إلى المعرفة والخبرة, في التمييز بين الحقائق من جهة والأكاذيب والبروبوغاندا من جهةٍ ثانية.
الكاتب في سطور
يعمل كورت بيلدا في تغطية الحروب منذ ما يربو على ثلاثين سنة. تنقّل بين مناطق النزاع ابتداءً من أفغانستان, مروراً بليبيريا, الصومال, الكونغو وحتى دارفور, ليبيا, سوريا والعراق. عمل لصالح (نيو زرشير زيتنغ) بين عامي 2002 و2010. كما عمل لصالح (فاينانشال تايمز) في نيويورك بين عامي 1999 و2001. حصل على شهاد الدكتوراه من جامعة باسيل عام 1998.