إنقاذ الصحافة لإنقاذ العالم.. قراءة في “الإعلام الخارق”

ميثاق “شرف” – (خاص)

يطلب “تشارلي بيكيت” من القرّاء أن يتخيلوا قضية مثل قضية ارتفاع درجة حرارة كوكبنا بكل تعقيداتها وطبيعتها العالمية في جوهرها، ثم التفكّر، كيف سيكون من الأسهل التعامل معها إن كان لدينا صحافة شبكية تتبنى “ميثاقاً جديداً قائماً على التبادل مع جمهور تفاعلي عالمي”؟

“أفطن جيداً إلى الوقائع الدنيئة للصحافة، سواء كانت في غرفة أخبار متطورة في لندن أو في قرية أفريقية أو في مدن الهند الكبيرة، بيد أنني أفطن أيضاً إلى أن الصحافة تقدم أملاً كبيراً لكل تلك الأماكن”، يقول الكاتب.

مستنداً إلى خبرته الواسعة، وبموضوعية صارمة، يطرح الصحافي المعروف وأستاذ الإعلام والاتصال في كلية لندن للاقتصاد “تشارلي بيكيت”، في كتابه “الإعلام الخارق”، المشكلات والتحديات التي تواجه الصحافة في الكوكب، في وقتنا الحالي، متحدثاً عن المسارات التي يجب أن تسلكها الصحافة، على اعتبار أنها أصبحت “عملية تنوير” وليست “عملية إعلام” فقط، وفق رؤية الصحافي والناقد الأمريكي “جيف جارفيس”.

 

إنقاذ الصحافة لإنقاذ العالم

حمل كتاب “بيكيت” عنواناً رديفاً لعنوانه الأول يشير إلى الفكرة المحور: “الإعلام الخارق – لننقذ الصحافة لكي ننقذ العالم”.

كتب “تشارلي بيكيت” أفكاراً ملفتة في كتابه، ليس كصحفي فقط، بل كـ”مواطن في هذا العالم”. يقول: “يسمع الصحفيون على الدوام أن وسائل الإعلام الإخبارية تتمتع بقوة هائلة، لتشكيل المجتمع والأحداث، ولتغيير الحيوات والتاريخ، إذن لماذا نحن كمجتمع غير مكترثين لمستقبل الصحافة نفسها؟”.

لا يدّعي الكاتب الحيادية في كتابه، بل يجدّ في طلب النزاهة وتحري الدقة والشمولية، ويقول إن الكتاب لا يقدم تأريخاً للصحافة، ولا يفحص حالتها الراهنة باستفاضة، إنما يسعى لفهم “القوى التحريرية” التي تخلق ما يسميها بـ”الصحافة الجيدة”.

 

ويتحدث الكتاب عن “الصحافة الرقمية” بالذات وعن “الصحافة الشبكية” التي تنتجها وسيلة الإعلام بالاشتراك والتعاون مع الجمهور، ويتناول “سياسة الصحافة” وتأثيرها وقدرتها على تسيير حدوث التغيير، والدافع وراء إنجاز الكتاب هو القناعة بأن الصحافة تعاصر لحظة فريدة في تاريخ البشرية.

ويشير الكاتب إلى أنه ثمة تهديدات هائلة تواجه جودة وسائل الإعلام الإخبارية وإمكانياتها، فقِيَم الانفتاح والتعددية والجودة جميعها مثيرة للجدل وقابلة للنزاع، وأحيانًا ما تأتي هذه التهديدات من مصادر مألوفة مثل عمليات إضفاء الطابع التجاري أو السلطوية السياسية، وأحياناً أخرى تتمثل التهديدات في مواجهة مشكلات جديدة مثل تفتت الجمهور الذي يأتي في أعقاب توفر إمكانية الاختيار، ولا يرى الكاتب أن التململ من انقضاء عصر ذهبي وهمي للصحافة المتفانية في معايير الجودة يطرح نقداً وافياً للصحافة اليوم، فمخاوفه أساسها السياسة وليس الحنين إلى الماضي، ويؤكد على إيمانه الشديد بأنه في خضم التهافت على التطور الرقمي للصحافة، يتعيَّن علينا أن نحافظ على القيم التي تدعم الصحافة الحرة كجزء ناجح من مجتمع مزدهر، فلا ينبغي أن نسمح للخوف بأن يشكل المستقبل.

إنقاذ الصحافة هو هاجس “تشارلي بيكيت”، ويرى أنه أمامنا 5 أو 10 سنوات لفعل ذلك، فالصحافة قادرة فعلياً على إنقاذ العالم.

 

تقييم وسائل الإعلام

يرى “بيكيت” أنه من الصعب جداً أن تكون لدينا نظرة حيادية عن وسائل الإعلام، فالعاملون فيها ميالون إلى تكوين آراء مبالغ فيها عن حالة الإعلام، بناء على تطلعاتهم وتجاربهم، فهم ينظرون إلى الأمور من منظور قطاع معين في مهنتهم (الإذاعة، والصحافة الإلكترونية.. إلخ)، هذا إلى جانب التحيز لموضوع تخصصهم (السياسة، والفنون، والرياضة.. إلخ)، والصحفي أيضاً دائماً ما يعكس توجهات عصره، ولئن كان من الواجب عليهم الجد في طلب الحيادية، إلا أنه رغم ذلك، إذا سألتهم عن حياتهم في عملهم ومجالهم، عادة ما ستجد آراء متحيزة تعبر عن وجهة نظر شخصية، بل وقد يكون رأيهم عاطفياً ومبتذلاً.

وبشأن التقييم، يدعو الكاتب للجوء إلى الجهات والأشخاص التي يتعامل معها الإعلام عادة، وهم القرّاء أو المشاهدين أو المستمعين، فضلاً عن الساسة والمعلنين والخبراء، فجميع هذه الفئات لديها آراء قوية للغاية وذاتية بشكل مذهل عن وسائل الإعلام.

 

محو الأميّة الإعلامية

يركز الكتاب على فكرة غاية في الأهمية، وهي كما أطلق عليها الكاتب “الأمّية الإعلامية”، ويؤكد أنه لا أمل من الصحافة الشبكية إذا كان الصحفيون والناس غير مؤهلين للمهمة.

يتعلق ذلك بمهارات الصحفيين كما يقول “بيكيت”، وفي حين يشكل الأمر قضية كبيرة في الاقتصادات النامية، والمجتمعات الأقل تطوراً بشكل خاص، فإن الحاجة إلى المزيد من “التثقيف الإعلامي” تصبح “حاجة عالمية”.

ويؤكد أن الصحفيين والجماهير يحتاجون إلى امتلاك فكرة عامَّة عن واجباتهم وحقوقهم كذلك، ويشدد على إيمانه بأن الصحفيين لا بد أن تكون لديهم فكرة عما هو حيادي وما هو حق، وفيما يصيرون أكثر اندماجاً في المجتمع من خلال عملية الصحافة، لا بد أيضاً أن يحتكموا في النهاية وفي داخلهم إلى أخلاقيات عملهم، وعلى دورات محو الأمية الإعلامية تدريس مبادئ التنوع الصحفي وإجراء التدريبات العملية والأخلاقية أيضاً.

يرى الكاتب أن هذا سيكون هذا توازنًا صعب التحقيق بشدة، بل وسيكون من الأصعب جدٍّا تعريف الحدود ووضع قواعد السلوك المهني، ولكن في النهاية، ليس أمام الصحفيين خيار؛ فسوف يصبح عملهم أكثر تشابكاً شاءوا أم أبَوْا.

 

 

لأجل صحافة أفضل

يسترسل “تشارلي بيكيت” في كتابه بالحديث عن التحديات التي تواجه الصحافة والصحفيين حول العالم والمواضيع بالغة الحساسية التي سيضطرون للتعامل معها بشكل جيد، كالإرهاب والعنصرية وحرية التعبير والمعضلات الأخلاقية، وعن الحلول التي يرى بأنها ستعطي البشرية صحافة أفضل، ضارباً عشرات الأمثلة الواقعية والمتنوعة المتصلة بهذا الشأن، مستنداً إلى اطلاعه الواسع على عالم الصحافة، من بريطانيا مروراً بالولايات المتحدة الأمريكية، وصولاً إلى أفريقيا والشرق الأوسط.

ويدعو الكاتب إلى المزيد من النقاش والتأمل في صناعة الصحافة، كجزء من تدريبات مستمرة ومنتظمة، تشمل كل الصحفيين وليس لكبار المدراء فقط، إضافة إلى المواطنين الصحفيين، فمن الضروري أن يفهم الصحفي مبادئ الصحافة الأساسية، من دقة وشمولية ونزاهة وقدرة على التشكيك، كما يقول “بيكيت”. ولئن كان من الصعب الإحاطة بكل ما ضمّه الكتاب من مواضيع وأفكار مضيئة، نعتقد أن اطلاع الصحفيين والصحفيات السوريين والسوريات على الكتاب، قد يضيف لخلفيتهم المهنية ومن منظور مختلف، رؤية جديدة، أكثر وضوحاً لعالم الصحافة المتشابك، الذي يعملون فيه.

طُبع “الإعلام الخارق” عام 2008، ويتألف الكتاب من 5 فصول، تتوزع على 265 صفحة، وتُرجم إلى اللغة العربية عام 2017 بواسطة مؤسسة “هنداوي” للتعليم والثقافة، وهو متاح للتحميل إلكترونياً بصيغة “PDF” إضافة إلى صيغتي “KFX” و”EPUB”.