نشرت مجلة “Arab Media & Society” في وقت سابق تقريراً يتمحور حول دور الصحافة البناءة وقت الأزمات، خاصة في الديمقراطيات الانتقالية، ويهتم التقرير بتعريف مصطلح الصحافة البناءة وأهميتها في المرحلة الانتقالية الحالية، خاصة في مواجهة الأزمات.
والمجلة هي دورية علمية محكمة نصف سنوية متخصصة في بحوث ودراسات الإعلام وتصدر باللغتين الإنجليزية والعربية، وتصدر عن مركز كمال أدهم للصحافة التليفزيونية والرقمية بكلية الشؤون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتناقش المجلة كل القضايا المتعلقة بالإعلام العربي في ظل المتغيرات الدولية.
وجاء في تقريرها حول “الصحافة البناء وقت الأزمات” والذي استند إلى مراجع عدة متخصصة في هذا الشأن: تزداد أهمية وسائل الإعلام ويقع على عاتقها دور كبير وقت الأزمات؛ لما لها من قدرات هائلة على التأثير في سلوكيات الجمهور٬ ولما لها من مسئولية مجتمعية في توعية الجمهور وإرشاده.
وقد كان للربيع العربي تأثير قوي فى طبيعة الأخبار بالمنطقة العربية؛ حيث أثرت التغيرات السياسية والأزمات الاقتصادية، في المجال الإعلامي بالشرق الأوسط، وبدلًا من تمكين المواطنين بالمعلومات، كانت وسائل الإعلام تسيطر عليها القوى السياسية والتجارية التي تركت المواطنين عالقين.
ومن هنا كان للتغيرات السياسية التي أحدثها الربيع العربي تأثير مهم فى أنظمة الإعلام العربية، خاصة التي شهدت ثورات عدة وتحديات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة جعلت تصنيفها الآن في الدول المتحولة ديمقراطياً.
لقد غيَّرت التغيرات السياسية غير المتوقعة التي هزت المنطقة العربية، عادات استهلاك وسائل الإعلام العربية بشكل عام، واستهلاك الأخبار على وجه الخصوص، وأصبح المواطنون أكثر انخراطاً في الأخبار، وأدت المنافسة الشديدة بين وسائل الإعلام إلى التركيز على القصص السلبية التي تكون أحياناً مهمة، ولكن الإفراط في التغطية وتكرار الأخبار السلبية يدفع الجمهور إلى تجنب الأخبار بأكملها (Edgerly, 2015; Jackson 2016).
وتُعرف الأخبار بأنها “المعلومات الجديدة والبارزة التي يتم نشرها بهدف إشراك المواطنين” (Lewis, 2012)، ووفقًا لــ (Lippman, 1992) فإننا “نعتمد على وسائل الإعلام لاستكشاف العالم من حولنا وبناء واقعنا”، وتشكل طريقة نقل الأخبار مواقف الجماهير وتؤثر في الرأي العام (Lewis, 2012).
يقول (Laswell, 1948) إن إحدى المهام الأساسية لوسائل الإعلام هو تغطية السلبيات والإيجابيات٬ والتهديدات والفرص، وأكد (Lewis, 1994) أن إغفال الإيجابيات أو الفرص في تغطية الأحداث يرسم صورة غير دقيقة وناقصة عن الواقع، قد تصل المتلقي للاستنفار واللامبالاة، ويعتقد الكثير من العلماء أن الصحافة البناءة هي أداة لزيادة مشاركة الجمهور، مع الحفاظ على الوظائف الأساسية للصحافة.
بالإضافة إلى أن الصحافة الإيجابية ما لم تتضمن في تفاصيل أخبارها ما يتعارض مع المعايير المهنية، فإنها تكون صحافة بناءة بإمكانها تقديم نموذج صحفي يهدف إلى تقدم وازدهار المجتمع، فليس بإمكان الصحافة أن تقدم معلومات بمعزل عن الواقع؛ وبالتالي فإن تعزيز إظهار المعلومات الإيجابية على الرغم من تضخم الواقع السلبي لا يعدو كونه تضليلًا يتعارض مع معيار الكشف الكلي للمعلومات.
لقد أصبحت معظم وسائل الإعلام بالفعل تصب تركيزها على الأحداث المثيرة على اعتبار أن هذه النوعية من الأخبار تثير فضول القارئء وتشد انتباهه؛ حيث إن تغطية الأزمات هي المكون الرئيس للصحافة، فكلما زادت الإثارة زادت نسبة المشاهدة، وبالتبعية زاد إقبال المعلن عليها؛ مما بسبب “عسراً للفهم” وارتباكاً في المشهد الإعلامي.
كما أن التغطيات التقليدية الروتينية الإعلامية للأخبار في ظل وجود أزمات تكون غير مناسبة، فهي تتطلب تحركاً مختلفاً٬ يبدأ من التحقق من المعلومات٬ وتناول جديد يهتم بنشر الإيجابيات وليس السلبيات فقط، والحث علي العمل الإيجابي والفعال٬ وهو ما يعرف باسم الصحافة البناءة.
ونظراً لدور الصحافة البناءة في الحفاظ على قيم الصحافة الأساسية، وفي الوقت نفسه تشجيع مشاركة المواطنين لتحسين مجتمعاتهم، فإن هذا البحث يهتم بدراسة أهمية وجود نموذج صحفي يعتمد على الصحافة البناءة في الدول الديمقراطية الانتقالية.
الصحافة البناءة في الديمقراطيات الانتقالية
يتفق العلماء على دور وسائل الإعلام في تكوين المعرفة والوعي السياسي٬ ودور وسائل الإعلام في توجيه سلوك الجمهور، وذلك لوجود علاقة مباشرة بين ما يبث فى وسائل الإعلام والسلوك الإيجابي أو السلبي للجماهير.
وتواجه وسائل الإعلام الرئيسة في الدول الانتقالية تحديات شديدة؛ لما تقوم بتغطيته من أزمات عديدة٬ قد تدفعها للتركيز في أغلب الوقت على السلبيات؛ مما يؤثر في سلوك المتلقي ويجعله يبتعد عن متابعة الأخبار والشعور باليأس وخيبة الأمل.
يقول شومان إن معظم وسائل الإعلام ما زالت غير قادرة على تقديم نموذج إعلامي مهني يهدف إلى الخدمة العامة، فهناك بعض المنصات التي تتجنب الحديث عن أية سلبيات اعتقاداً أن المرحلة الحالية لا تحتمل أية انتقادات، والبعض الآخر يهتم فقط بالسلبيات متجنباً أية إنجازات؛ لأن اهتمامه الوحيد هو زيادة عدد المعلنين والإيرادات (Shuman, 2015).
وبالرغم من أن وسائل الإعلام شهدت نمواً من حيث العدد، فإنها تتعرض لضغوط عديدة لخدمة مصالحها، وتهيمن الأخبار السلبية على وسائل الإعلام في الدول العربية، وتتصدر الأزمات العناوين الرئيسة بشكل مفرط؛ ونتيجة لذلك، أصبح المواطنون قلقين بشأن حالة الاستقرار ومعدلات النمو وفرص التقدم (القصراوي، 2017)، وأشار “القصراوي” إلى أن الجرعة المفرطة من الأخبار السلبية لا تعكس الصورة الحقيقية، ويبقي المواطن عالقاً بين الأخبار السلبية المتكررة من جهة، والبيانات الإيجابية للمسؤولين عن التنمية من جهة أخرى، دون أية متابعة من وسائل الإعلام لإبلاغهم بأي تطور أو تحسن.
لا يستطيع المواطن الحصول على رؤية كاملة واضحة حول القضايا المحلية؛ إذ قامت كل وسيلة بتغطية ومعالجة أية قضية استناداً لما يخدم مصالحها، يقول وليد عبود، مدير شركة “MTC”، إن الصحافة البناءة لا يمكن تنفيذها دون تحول في عقلية أصحاب وسائل الإعلام، وأشار إلى أن الكيانات الإعلامية يجب أن تستفيد من الأدوات التكنولوجية الجديدة لممارسة الصحافة البناءة، وخاصة في وسائل الإعلام الاجتماعية.
وتعرف الصحافة البناءة بأنها الأخبار التي تعمل على تحسين المجتمع وتشجيع المواطنين على أن يكونوا أكثر تفاؤلًا تجاه بيئتهم (Gyldensted, 2011)، كما أنها تزيد مستوى مشاركة الجمهور (McIntyre & Sobel, 2014)، بالإضافة إلى تقديم تقارير متوازنة، التي هي مرة أخرى إحدى الوظائف الأساسية للصحافة.
وستظل تغطية السلبيات والأزمات أمراً ضرورياً في الأخبار؛ لأنها من وظائف الإعلام الأساسية كمراقب لأداء الحكومة وأداة لتنبيه الجمهور إلى المخاوف المحتملة، ومع ذلك، أكدت الكثير من مراكز البحوث أن مصداقية وسائل الإعلام بشكل عام تنخفض تدريجياً بسبب الإفراط في الأخبار السلبية والتركيز على الصراعات الذي يؤدي إلى نتائج عكسية وحالة من النفور (Pew Research Center, 2012; Pew Research Center 2011).
ومن هنا فإنه ينبغي التمييز بين ضرورة نقل الوقائع بموضوعية ومهنية، والتمادي في تصوير سوداوية هذا الواقع في فترات الأزمات، فمن الطبيعي أن تقوم الصحافة بنقل رسائل المعارك والمشاكل، ولكن من الضروري أن تنتبه للرسائل السلبية التي تبثها من خلال رسائلها عن قصد أو غير قصد ولو أحرزت المصداقية، وهنا يبرز دور الصحافة الإيجابية في فترات الأزمات في سبيل نقل الرسائل الإيجابية التي ترفع معنويات المواطنين وتقلل سوداوية المشهد، وتقلص الدوافع السلبية لديهم لاتخاذ القرارات ذات الطابع التشاؤمي.
وتلتزم الصحافة البناءة بالوظائف الأساسية للصحافة في عملية كتابة الأخبار، بداية من جمع المعلومات وصولًا إلى الصورة النهائية للخبر (Sillesen, 2014)، ويعرف “Geri Weis-Corbley”، الصحفي الإذاعي ومؤسس شبكة الأخبار “Good News”، الصحافة البناءة بما يعرف بــ silver lining، أي الأخبار التي تسلط الضوء على النتائج الإيجابية لقصة إخبارية سلبية أو حزينة؛ لذلك تجمع الصحافة البناءة بين الوظيفة الرقابية التقليدية للإعلام والجانب الإيجابي المحتمل للقصة، وأكد استحالة عدم تغطية قصص سلبية، ومع ذلك، فإن النقد البناء هو مفتاح الحوار، ليس فقط من خلال تقديم التقارير عن الأحداث الجارية، ولكن أيضاً من خلال التفسير المهني الشامل للأخبار (Beam et.al, 2009).
وقال (الداغر، ٢٠١٢) في دراسته عن الوسائل الإعلامية العربية، إن وسائل الإعلام يجب أن تحفز وعي المواطنين، من خلال إرساء قيم ومبادئ إيجابية تؤدي إلى البناء المجتمعي والحفاظ على هويته وتشجيع المواطنين على التفاعل مع القضايا الراهنة، وفي دراسته حول اعتماد الشباب على وسائل الإعلام أثناء الأزمة، قال (فرج، ٢٠٠٦) إن قصة متوازنة لها تأثير إيجابي في سلوك الشباب أكثر أهمية من قصة منحازة تؤدي إلى الارتباك.
كما وجدت (Ayrouth، 2013) في دراستها عن تأثير ومصداقية وسائل الإعلام في العالم العربي، أن جودة التقارير الإخبارية انخفضت بشكل عام٬ وعبرت عن قلقها تجاه استقلال وسائل الإعلام ومصداقيتها، وبما أن الفترات الانتقالية تؤثر فى العلاقة بين المواطنين والحكومة ووسائل الإعلام؛ مما يفسح المجال أمام ظهور اتجاهات جديدة للصحافة، فإن هذه الدراسة تهدف إلى فهم دور الصحافة البناءة وقت الأزمات، وخاصة في بيـئة تمر بكثير من التحديات والتغيرات السياسة والاقتصادية والاجتماعية.
تعريف الصحافة البناءة
لا تزال وسائل الإعلام العربية تقف عند مفترق طرق في الفترة الحالية بعد الربيع العربي وتداعياته على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والإعلامية، ومع ذلك، فإنه يمكن لوسائل الإعلام استخدام الأخبار السلبية التي تم توليدها على مدى السنوات الماضية ونقل المواطنين إلى الجبهة الأخرى من الدمار والتشريد والقتل والتخريب إلى البناء والإعمار والتقدم، فالصحافة البناءة مهمة لتوفير أشكال من شأنها أن تتعارض مع الأشكال الإخبارية المفرطة للنزاع والدم والموت.
وقبل تناول دور الصحافة البناءة وقت الأزمات، يجب تعريف مصطلح “الصحافة البناءة” ومعرفة وظائفها الأساسية في الأنظمة الانتقالية، وكثيرًا ما تنتقد الصحافة البناءة؛ لأن الفكرة الأساسية ليست مفهومة جيداً٬ ومن المهم التمييز بين “المحتوى الصحفي الإيجابي” و “المحتوى الصحفي البناء”، ومن أبرز التعريفات ما يأتي:
تمكين المواطن: لا تختلف الصحافة البناءة عن التعريف الكلاسيكي للصحافة٬ فهي الصحافة التي تهدف إلى خدمة المصلحة العامة٬ وهدفها هو إعلام المواطنين، وليس المدح أو التقويض، فهي نوع هادف من الصحافة لا تتعارض وظيفته مع المعايير المهنية الأساسية للصحافة، فالصحافة البناءة تهتم بعملية تمكين المواطنين من خلال المتابعة والإيمان بحق المواطن في المعرفة.
توفير المعلومات: إن الوظيفة الأساسية للصحافة البناءة هي عدم الانحياز، وأن تعمل وسائل الإعلام على توفير المعلومات والبيانات، وزيادة وعي المواطنين بأهمية المشاركة في الحياة المدنية والسياسية، والابتعاد عن البروباجندا، والتركيز على مراقبة أداء الحكومة.
فالصحافة البناءة هي قصة إخبارية تجيب عن عناصر التقرير الخمسة الرئيسة: من وماذا وأين ومتى ولماذا؟، وتجيب أيضاً عن سؤال: ما العمل الآن؟، فالصحافة البناءة هي التي تقدم المشكل وتجد الحل أو تسهم في إيجاده٬ هي التي تكون صوتاً للناس وليست بوقاً للدعاية.
إحداث المعرفة: في ظل انتشار صحافة المواطن (الشبكات الاجتماعية والمدونات) والتدفق المطلق للمعلومات٬ تكون الصحافة البناءة ضرورة مطلقة للتحقق من المعلومات والحد من الفوضى والشائعات وتعميمها، ولا ينبغي لوسائل الإعلام أن تقدم تغطيات متطرفة، كما يجب أن يُرسم الخط الفاصل بين دورها في تغطية الأخبار السلبية بطريقة مهنية والإفراط فيها وإغراق الجمهور في أخبار سلبية قد تدفعه إلى اتخاذ قرارات ذات طبيعة تشاؤمية.
الصحافة البناءة والمسؤولية الاجتماعية
تضطلع الصحافة البناءة دائماً بمسؤولية اجتماعية، بداية من عملية جمع الأخبار وصولًا إلى مرحلة إعداد التقارير؛ لذلك فهي تقوم بدورها الرقابي على مختلف المؤسسات، مع تقديم مؤشرات عن معدلات التقدم والتنمية دون أي تحيز، ويتفق المختصون على أن هناك حاجة لنموذج صحفي بنائي في الدول الانتقالية يقوم على حق المواطن في المعرفة، ويعتقد الخبراء أن الصحافة البناءة ضرورية في الوقت الحاضر؛ لأن الجمهور يعاني الآن من التغطية الاستقطابية؛ حيث يذهب الصحفيون إلى أقصى الحدود، سواء في تقدير أو تقويض أداء الحكومة.
فالصحافة الإيجابية لها دور في التقليص من تداعيات الخلافات، والتخفيف من حدة الفتن في أوقات الحروب والأزمات، ويكون ذلك من خلال الالتزام قدر الإمكان بالمعايير الصحفية، مع الأخذ بعين الاعتبار ضروريات المرحلة وحدة الظروف.
ويقول الخبراء إن هناك حاجة إلى ممارسة الصحافة البناءة خلال الأوقات الانتقالية أكثر من أوقات الاستقرار؛ لما لها من أثر إيجابي واضح فى تنمية المجتمع، ففي الفترات الانتقالية بعد الاضطرابات وعدم الاستقرار، تكون الصحافة البناءة أمراً حيوياً؛ حيث إنها لا تعتمد فقط على تغطية الأخبار، بل تتجاوز هذا الحد من خلال دمج الجماهير في التوصية بالحلول أو عرض نماذج استطاعت أن تتغلب على تحديات مماثلة.
وفي ظل الانتشار الواسع لصحافة المواطن، ومشاركة المواطنين في عملية نقل الرسائل الإعلامية، بغض النظر عن حجم مطابقة هذه الصحافة لمعايير أخلاقيات الصحافة ومهنيتها، وفي ظل المشاكل المتنوعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أثرت بشكل مباشر فى نفسية المواطنين، بمعنى أنها كانت ذات أثر سلبي، كان لا بد من ضابط لما يعرف بصحافة المواطن؛ إذ إنها قد تشكل تحدياً كبيراً أمام إحراز المهنية الصحفية.
إن الصحافة الإيجابية باتت ضرورة في ظل تنامي انتشار صحافة المواطن؛ إذ من شأنها أن تؤدي دور الضابط لها في ظل تزايد الأزمات المتنوعة؛ لوضع حد للنظرة السوداوية المستندة إلى المبالغات العاطفية في تصوير الواقع، فتعامل المواطنين مع الخبر سينطلي على العاطفية أكثر منه على الموضوعية، وهو ما ينعكس سلباً على المهنية.
الصحافة البناءة ومكافحة الإرهاب
أشار الخبراء إلى أن الصحافة البناءة ضرورية في أوقات الأزمات وعدم الاستقرار أكثر من أوقات الازدهار، وقد واجهت معظم المنطقة العربية هجمات إرهابية لم تعالجها وسائل الإعلام بشكل صحيح.
كما أشار أحد الخبراء إلى أن بعض وسائل الإعلام الخاصة تقدم خلال الهجمات الإرهابية صورة قاتمة، إلى درجة أن الأخبار أثبتت أنها محبطة للجمهور، وتهدف هذه التغطية القاتمة إلى تحقيق مكاسب تجارية أكثر من المكاسب المهنية.
وفي هذا السياق، تعد وسائل الإعلام مهمة لتوفير المعلومات الدقيقة والرأي المستنير في بيئة تتعرض لكثير من الهجمات؛ لذلك تجب الإشارة إلى أن العلاقة بين الإرهاب ووسائل الإعلام علاقة معقدة، وأن الجماعات الإرهابية تستحدث مشاهد من العنف لمواصلة جذب انتباه العالم، واستخدام الإعلام كآلة إعلامية (اليونسكو٬ 2017)٬ وتقوم بابتزاز واستغلال وسائل الإعلام للحصول على منبر يحقق لها العلانية والحضور الإعلامي والوصول إلى الرأي العام محليًا ودوليًا وجذب أعداد ضخمة من الجماهير.
ومن المهم أن نتذكر أن الهدف من هذه الجهات الفاعلة العنيفة ليس الإرهاب من أجل الإرهاب، فهم لا يرغبون في خلق الخوف في أذهان الرجال والنساء فقط، بل إن هدفهم الحقيقي هو إغراق المجتمع ومحاولة استقطاب شباب جدد لاعتناق الفكر الإرهابي وتهيئة المناخ لنمو التطرف الفكري.
إن السعي وراء الحقيقة بعد حدوث الهجمات الإرهابية أمر ضروري وحتمي، وهو مبدأ من المباديء الأساسية للصحافة البناءة؛ لما تحدثه الهجمات الإرهابية من ارتباك، خاصة عندما يكون هناك تضارب في المعلومات والبيانات، ولا يقتصر دور وسائل الإعلام في سعيها وراء الحقيقة على التحقق من دقة المعلومات وإمداد الجمهور بها، بل يتطلب منها أيضاً تقديم تفسير لارتكاب تلك الأعمال الوحشية؛ ومن ثم توعية المواطنين وتثقيفهم ليكونوا شريكًا في عملية التصدي لها.
وهذا يعني عدم الاكتفاء بالإبلاغ عن التفاصيل القاتمة، ولكن أيضاً تقديم نماذج لمن يعمل على تغيير تلك المحنة ومن نجح في محاربتها، إنه تحليل حول كيفية محاربة الفكر الإرهابي والخراب والدمار بدلًا من مجرد تقديم إحصاءات عن عدد الهجمات الإرهابية أو أرقام عن مدى الضرر والأرواح المزهقة.
إن معظم الدول العربية ليس لديها خطة إعلامية أو استراتيجية لمكافحة الإرهاب، ويقوم معظم وسائل الإعلام بتغطية الهجمات الإرهابية بشكل إخباري فقط؛ لذلك، فإن الصحافة البناءة مهمة لمواجهة التقارير التقليدية وتوفير أشكال مختلفة من التغطية.
الصحافة البناءة وقت الأزمات الاقتصادية
إن معظم ما قدمته وسائل الإعلام عن القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة المصرية هو تغطية لما سيحدث من تطورات ناتجة عن القرارات الاقتصادية، فاكتفى معظم الوسائل الإعلامية بالتعامل مع الأزمة عن طريق النشرات الإخبارية وبعض البرامج الحوارية القليلة (قيراط، ٢٠١٠)، هذا بالإضافة إلى بعض الوسائل التي اتخذت نهج التهويل، وأخرى فضلت التعتيم، وهنا يأتي دور الصحافة البناءة في المتابعة المستمرة للأزمة وتحليل أسبابها وانعكاساتها وكيفية مواجهة أضرارها، وليس الاكتفاء بعرضها ومساندة أو مجابهة القرار فقط، دون تحليل وإلمام بالموضوع.
ولا يقتصر دور الصحافة البناءة على عرض الأخبار والحقائق والمعلومات٬ ولكن -كما ذكر من قبل- فإن لديها دوراً أيضاً في إحداث المعرفة والتأثير الإيجابي؛ فالجانب الإخباري يتم من خلال التعريف بالأزمة والمجهودات المبذولة من أجل مواجهتها ومدى تأثيرها٬ ويأتي دور الصحافة البناءة في كيفية استخدام المعلومات والبيانات وتناولها في إطار تحليلي إرشادي يهدف إلى تفادي الأضرار الاقتصادية والمالية (Levitz ،2015).
كما يبرز جوهر الصحافة البناءة في “المتابعة”، ويقصد بها أن الإعلام لديه دور في متابعة كافة نتائج القرارات الاقتصادية والمشاريع الاقتصادية على المواطن٬ وليس فقط تغطية تدشينها، بل مراقبة أداء القائمين على المشاريع، سواء الحكومة أو جهات خاصة، وتزويد المواطنين بالمعلومات عن مراحل نمو المشاريع وأهميتها في الاقتصاد وتوفيرها لفرص العمل٬ ومدى جدواها في المستقبل القريب والبعيد.
الصحافة البناءة وملكية الإعلام وثقة الجمهور
إن الممارسات الحالية التي تمارس على وسائل الإعلام لا تلبي احتياجات المواطنين في الفترة الانتقالية٬ وتؤثر فى استقلاليتها التحريرية؛ وبالتالي تؤثر فى ثقة الجمهور (الخاجة ٢٠١٢)، ويؤكد الخبراء أن وسائل الإعلام الخاصة ليست مرادفاً لوسائل الإعلام الحرة أو المستقلة، ويشكك الجمهور في مصداقية وسائل الإعلام الوطنية والخاصة السائدة بسبب بعض الممارسات الصحفية غير المهنية.
وتهتم الصحافة البناءة بتزويد الجمهور بالمعلومات الدقيقة؛ حتى يمكن كسب ثقة الجمهور؛ وبالتالي يؤمن بدوره في حل المشكلة بدلًا من إلقاء اللوم على الدولة طوال الوقت، أو خلق حالة من الفتور بين المواطن ومؤسسات الدولة، ووفقاً لكثير من التقارير٬ فإن وسائل الإعلام التي تعمل على تقديم صحافة بناءة من خلال تقديم تقارير شاملة٬ تساعد على تحسين علاقتها مع الجمهور وكسب ثقتهم.
وتشير بعض الدراسات إلى أن نسبة مشاركة الجمهور تزداد عند تقديم حلول للمشاكل أو دعوتهم لطرح أفكار لمواجهة المشاكل، فالصحافة البناءة مهمة لمواجهة وسائل الإعلام المتحيزة والتي تستخدم كأداة للهدم أو للبروباجندا، إنها تعني أن تقول الحقيقة دون تهويل أو خضوع لمنطق “الحصري”، وعدم المتاجرة بقضايا الناس بحثاً عن الربح المادي، فالصحفي بإمكانه أن يصور واقعاً مريراً، لكن دون ابتذال أو إهانة للناس (اليونسكو٬ ٢٠١٧)، فيجب عليه أن يكون جزءاً فاعلًا في القصة لا ناقلًا فحسب، وتهدف الصحافة الإيجابية إلى تعزيز نشر الرسائل الإيجابية وتعزيز السلم الأهلي وقبول الآخر لا المتاجرة بقضاياه.
إن عرض مشكلة معينة إلى جانب عرض الحل الخاص بها يرفع من تقبل القاريء للخير، وقد أجرت هيئة الإذاعة البريطانية وجريدة نيويورك تايمز استطلاعاً على جمهورهما، وأوضحت نتيجة الاستطلاع أن الجمهور لديه رغبة في قراءة المزيد من الحلول للمشاكل التي يتم عرضها أو طرح أفكار لمواجهة المشاكل، بدلًا من الاكتفاء بتغطية المشكلة فقط.
ويقول (Kraidy, 2014) إن انخفاض الثقة في وسائل الإعلام العامة والخاصة٬ يجعل الجمهور ينجذب لوسائل الإعلام العابرة للحدود٬ وهي في هذه المرحلة تعد من البدائل الرئيسة، خاصة أنها تسوق لنفسها مهنيًا، فهي حريصة على أن تبين الجوانب الإيجابية والسلبية للخبر، وتحاول تقديم آراء مختلفة لكسب ثقة الجمهور، ومع ذلك، فإنها لا تستطيع معالجة كل قضية محلية؛ لأنها ذات مصلحة إقليمية، وليست محلية.
ستظل وسائل الإعلام تواجه الكثير من التحديات في الفترة الانتقالية؛ لذلك فهي في حاجة إلى نموذج تفاعلي بناء يتجاوز الهياكل التقليدية والضغوط التجارية، صحافة تفاعلية بناءة مسؤولة اجتماعيًا تشجع على التواصل بين صانعي القرار والمواطنين.
إن دور الصحافة الإيجابية في فترة ما بعد الأزمات، وأثناء المرحلة الانتقالية، ينطوي على أهمية بالغة؛ إذ إن هذه المرحلة الحساسة في تاريخ البلدان تحتاج للتبصر والوعي والنظر إلى الأمام أكثر من التركيز على مشاكل الماضي، مع تأكيد أهمية الاستفادة منها؛ وبالتالي، فإنه بعد مرحلة كشف الفساد ورصد السلبيات والأخطاء في فترة الأزمات، يتبلور دور الصحافة الإيجابية من خلال تسليط الضوء على العوامل الإيجابية التي من شأنها الحد من تراكم السلبيات والدفع بعجلة النمو والتطور إلى الأمام، بما في ذلك تشجيع المواطنين على أداء أدوارهم كمواطنين بشكل أساسي، وكأعضاء فاعلين في المؤسسات الرسمية والخاصة، وكمشاركين فاعلين في ماكينتي المجتمع والدولة.
المصدر: Arab Media & Society