تُشكل معايير السلوك المهني والأخلاقي البيئةَ السليمة لممارسة النشاطات الإنسانية على مختلف أنواعها وأنماطها، حيث تهدف بالمحصلة إلى الوصول نحو الرقي الإنساني، هذه المعايير والمبادئ تسمو بذاتها على القواعد القانونية الناظمة في كل المجالات سواء في الطب، أو التعليم، أو التجارة، أو الإعلام وغيرها؛ لأنَّها نابعة من قيم المجتمعات ومبادئه الإنسانية، وتخضع في تطبيقها لرقابة الضمير قبل المجتمع، ومحاسبة الذات قبل التشريعات القانونية المجردة.
والحقل الإعلامي ليس بعيدًا عن هذه البيئة كونه نشاط إنساني اجتماعي بالدرجة الأولى هدفه تقديم المعلومات والحقائق للجمهور وتزويد المجتمعات بالأخبار والوقائع لتشكيل رأي عام واعٍ ومتفاعل مع قضاياه واحتياجاته.
وفي ظل عمل (ميثاق شرف للإعلاميين السوريين) على تطوير الإعلام السوري وإحداث نقلة وإضافة جديدة في جودته المهنية ومحاولة التنظيم الذاتي لهذا القطاع، أطلق (الميثاق) مبادرة (نظام الشكوى) الذي يستمد سلطته من المرجعيات الأخلاقية والمهنية للصحافة وفق محددات وآليات واضحة تعتمدها لجنة ضمن هذا النظام يطلق عليها (لجنة الشكوى).
معايير مهنية وضوابط ناظمة
إنَّ ضرورة وجود هذا النظام في حيّز الممارسة الإعلامية في الفضاء السوري الذي يعدُّ بيئة خطرة على مهنة الصحافة وعلى أطراف المنتج الإعلامي بالعموم يسهم في حماية هذه الأطراف إذا ما التزمت بمعايير السلوك المهني والأخلاقي، وتضمن حماية حقوق الجمهور كونه الطرف المتفاعل والمستهدف بالوقت نفسه في عملية الإنتاج الإعلامي في ظل تعدد سلطات الأمر الواقع وغياب التشريعات القانونية الناظمة والضامنة لحقوق الجمهور أو العاملين والمؤسسات الإعلامية.
ويعدُّ تضمين معايير الدقة والصحة والنزاهة في العمل الإعلامي ضمن مدونة السلوك عاملاً مهماً للجمهور من أجل الوصول لخدمة إعلامية حقيقية تقوم على نقاء المعلومة من كدر الإشاعة والمبالغة والتحيز في عصر سرعة المعلومة وسهولة الوصول؛ لذلك فقد بات العمل الإعلامي أكثر صعوبة مع التقدم التكنولوجي وظهور وانتشار الصحافة الصفراء والإعلام المأجور المسيس.
بالمقابل تحقق هذه المعايير نطاق حماية للمؤسسات والعاملين الإعلاميين أمام المسؤولية الاجتماعية التي من الممكن أن تترتب في ظل نقل المعلومات أو البيانات والوسائط المُضللة أو الكاذبة، فتوخي الموثوقية والنزاهة في العمل الإعلامي هو أول خطوات بناء الثقة مع الجمهور.
وبهذا الصدد يلعب ضمير الفرد دورًا مهمًا في تبني هذا المعيار قبل الوصول لمرحلة المسؤولية الاجتماعية لما يترتب على ذلك من مخاطر قد تهدد أمن المجتمع أو معلومات قد تتسبب بأزمات متنوعة أسبابها أخبار مُضللة أو إشاعات تخدم فئات معينة سياسية أو اقتصادية حواملها الإعلامية غير نزيهة.
من جهة أخرى تؤكد مدونة السلوك حمايةَ المصادر والخصوصية في العمل الإعلامي السوري، حيث يعتري المشهد السوري الكثير من التجاوزات في هذا النطاق تحت مبررات التوثيق الإعلامي وضرورة الظهور، عدا عن ضعف الخبرة في حماية المعلومات والمصادر من قبل العاملين الإعلاميين على الأرض.
إنَّ قيم الأمانة والثقة في تكوين الشخصية الصحفية سدٌّ منيعٌ في حماية مصادر الخبر والمعلومة التي عادةً ما تكون حول تحقيقات وتسريبات لجهات كبرى أو نافذة قادرة أن تمارس مختلف أنواع الضغط لسدّ ثغرتها وإغلاق قضاياها أمام الصحافة والجمهور.
كما أنَّ الخصوصية التي يحرص عليها الصحفي خلال عملية الإنتاج الإعلامي للطرف الآخر توفر له الحماية من المساءلة القانونية التي قد تتوفر مستقبلا للأفراد أو ذويهم من خلال التأكد من الحصول على قبول أو موافقة على الظهور الشخصي أو الكشف عن الأقوال والمعلومات.
تبني القيم والمعايير الإنسانية الدولية
وليس ببعيد عن هذا المعيار احترام كرامة الضحايا الأموات والأحياء وخصوصية المواقف الحساسة، فالكرامة الإنسانية تعلو على كل الاعتبارات التي من الممكن أن تسعى لها بعض وسائل الإعلام والإعلاميين عند تغطية الكوارث والأزمات، وهذه المسألة تضمنها المواثيق والأعراف الدولية، وعلى وسائل الإعلام السورية توخي الحذر عند نقل أو تغطية ما تشهده الساحة السورية من المآسي الإنسانية بفعل الآلة العسكرية والكوارث الأخرى.
ولا تخلو مدونة السلوك من أهم حق من حقوق الإنسان وهو عدم التمييز بين البشر لأي سبب، وهو ما تبناه (نظام الشكوى) في تعليماته، ويعدُّ خرقًا لمعايير السلوك المهني والأخلاقي أي عمل أو منتج إعلامي يقوم على إظهار تفوق أو تمييز قائم على العرقية أو المذهبية والطائفية أو نوع الجنس في النسيج السوري بهدف تمييز الأفراد والمجموعات البشرية بعضها على بعض، والتي يمكن استغلالها سلبًا من خلال المنابر الإعلامية لغايات دنيئة لا يقبلها منطق سليم ومهنة شريفة.
ويندرج في هذا الإطار أيضًا معيار عدم التنميط للأفراد والمجتمعات التي يمكن تناولها على وسائل الاعلام السورية، وهو مفهوم يرفض تشويه أي فئة ثقافية أو اجتماعية أو دينية ووسمها بصفات سلبية، هذا السلوك الإعلامي يرفضه (نظام الشكوى) ولا يسمح به على وسائل الإعلام المنضوية في (ميثاق شرف للإعلاميين السوريين)؛ لما قد يسببه من أذى لجماعات معينة أو ما قد تفرزه هذه السياسة الإعلامية من تأجيج لمشاعر الحقد والكراهية والعنف في المجتمع السوري الغني بتنوعه الثقافي والحضاري.
وتؤكد معايير السلوك المهني والأخلاقي على الحلقةَ الأضعف في شريحة الجمهور وهي المسؤولية تجاه الأطفال الذين يتمتعون بكل عناصر المعايير السابقة إلى جانب ضرورة ضمان الحفاظ على صحتهم النفسية والجسدية خلال إشراكهم في عملية الإنتاج الإعلامي.
حقوق النشر الإلكتروني والملكية الفكرية
كما تحتوي مدونة السلوك بندًا ينص على الالتزام بقواعد الملكية الفكرية وهي حقوق قانونية تحمي منتجات النشاط الفكري في مجالات الصناعة والابتكار والتجارة والأدب والفن والعمل الإعلامي لا يخرج عن هذه الدائرة، وتنظيم حقوق الملكية بين صانع المحتوى والمؤسسة يضمن حقوق كلا الطرفين، وفي حال كان أحد أفراد الجمهور طرفًا في هذه الحقوق فإنَّ له الحق بالتصرف بها على الوجه الذي يريد في الإطار القانوني الذي يضمن حقه.
وقد نظَّمت آلية الشكاوى طريقة استخدام المنتجات الصحفية المملوكة للغير والمنشورة على الإنترنت وتلك التي تكفلها قوانيين الاستخدام العادل.
وبهذا الصدد فإنَّ للمحاسبة الذاتية دور مهم في عملية الاستخدام ونسب الأعمال لأصحابها وعدم الاجتزاء من الوسائط والمنتجات أو تحويرها وحتى تعديلها في ظل توفر تقنيات وبرامج تمكن من ذلك بهدف الإفلات من المطالبة بحقوق النشر والتأليف.
التكامل بين القيم الإنسانية والأخلاق المهنية
وتشتمل مدونة السلوك المهني والأخلاقي على معايير أخلاقية تأتي في السياق الإنساني العام في إطار الخير ومفهوم الفضيلة في المجتمع والعلاقات الإنسانية، ولا بد هنا من التميز بين الأخلاق في هذا المنظور وبين الأخلاقيات المهنية التي تنظم عملاً مهنيًا محددًا في إطار أطرافه لإنتاج خدمة أو تأدية عمل أو الوصول لهدف، وهي تشتمل على كل المهن والأعمال بمختلف أنواعها.
إلا أنَّ هذا التميز لا يمكن تصوره منفصلاً في الإنسان الواعي المدرك لدوره في المجتمع والساعي لتحقيق هدف رسالته المهنية ومن هنا أضاف الميثاق معايير عدم القدح والذم والتحقير والتشجيع على الجريمة والافتراء والتجني والإضرار بالغير إلى مدونة سلوكه المهنية والأخلاقية؛ لأنَّها معايير أساسية في العلاقات الإنسانية وفي معظم الثقافات ولدى أغلب الشعوب.
بالنتيجة فإنَّ الإعلام رسالة سامية يقوم على المسؤولية الاجتماعية في إطار المعايير المهنية والإنسانية السابقة، التي تعزز فكرة الشفافية والمساءلة في المجتمع انطلاقًا من قيمه في سلوكيات الأفراد ومبادئ العمل العادلة في العمل الإعلامي وغيره.
تقرير: غسان الجمعة – صحيفة حبر
لتحميل مدونة السلوك المهني: اضغط هنا
لتقديم الشكوى: اضغط هنا